السياسة في موريتانيا

الحراطين في موريتانيا: هوية اجتماعية-تاريخية بين الاندماج الثقافي والتهميش البنيوي

الحراطين في موريتانيا: هوية اجتماعية-تاريخية بين الاندماج الثقافي والتهميش البنيوي

تمثل فئة الحراطين في موريتانيا حالة سوسيولوجية معقدة، يصعب تصنيفها ضمن الأطر الكلاسيكية للهوية. فبخلاف الجماعات الإثنية التي تُعرَّف عادة باللغة والأصل العرقي والنسق الثقافي الخاص، لا يمتلك الحراطين هذه الخصائص مجتمعة؛ إذ ينتمون إلى الفضاء العربي الحساني، ويتحدثون الحسانية، ويتبنون الممارسات الصوفية والرموز الثقافية المشتركة مع البيضان.
ومع ذلك، فإنهم يشكلون كيانًا اجتماعيًا متميزًا بفعل « التاريخ المشترك للاستعباد »، وما ترتب عنه من موقع طبقي دنيا داخل البنية الهرمية التقليدية. وهو ما يجعلهم أقرب إلى ما وصفه بندكت أندرسون بـ الجماعة المتخيلة، أي كيان يتشكل من خلال الذاكرة الجمعية والخطاب الاجتماعي، أكثر مما يتأسس على مقومات موضوعية صلبة.
و في السياق التقليدي، مثل الحراطين قاعدة الهرم الاجتماعي. فقد أسندت إليهم أدوار العمل اليدوي والخدمة والإنتاج، بينما احتكرت الفئات المسيطرة (القبائل البيضانية) الموارد الرمزية والمادية. هذا التوزيع لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل اتخذ بعدًا ثقافيًا ورمزيًا، بما يتوافق مع ما يسميه بيير بورديو بـ العنف الرمزي، حيث تتحول الهيمنة الاجتماعية إلى أنماط إدراكية وقيمية تبدو طبيعية، وتعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال.
بهذا المعنى، فإن الحراطين لم يكونوا مجرد فئة مهمشة اقتصاديًا، بل كانوا موضوعًا لإقصاء مركب: اقتصادي، ثقافي ورمزي في آن واحد.
مع تشكل الدولة الحديثة وبروز التعليم والاقتصاد النقدي، ظهرت إمكانيات جديدة أمام الحراطين للارتقاء الاجتماعي. فقد صعدت نخب حراطينية عبر التعليم والعمل النقابي والسياسي، كما تمكنت بعض الأسر من تحقيق استقلال اقتصادي نسبي. إلا أن هذا الارتقاء ظل محدودًا، لأن رأس المال الرمزي (بحسب بورديو) بقي محتكرًا إلى حد كبير من قبل الفئات التقليدية، فيما واصل التمييز الرمزي والمجتمعي ملاحقة الحراطين في حياتهم اليومية.
وبالتالي، يمكن القول إن الحراطين يعيشون وضعية مفارقة: اندماج ثقافي شبه كامل داخل الفضاء العربي الحساني، يقابله إقصاء اجتماعي متجذر يجعلهم يطالبون باستمرار بإعادة تعريف موقعهم في البنية الوطنية.
إن هوية الحراطين ليست فطرية ولا بيولوجية، وإنما مُنتَجة عبر الزمن. فهي أشبه بما وصفه إريك هوبزباوم بـ اختراع التقاليد: أي بناء هوية جماعية على أساس ممارسات وذكريات مشتركة، تُعاد صياغتها باستمرار في مواجهة التراتبية والهيمنة.
وعليه، يمكن تمييز مستويين لهذه الهوية:
الهوية الأنثروبولوجية: اندماجية، ضمن النسيج العربي الحساني، حيث لا يستقل الحراطين بلغة أو ثقافة خاصة.
الهوية السوسيولوجية: نضالية-طبقية، تتأسس على وعي جمعي بالغبن التاريخي، وعلى مطالب بالمساواة والاعتراف والكرامة. وهي هوية دينامية يعاد إنتاجها عبر الحركات الاجتماعية والخطابات السياسية التي تستحضر ذاكرة العبودية وتحوّلها إلى أداة للتعبئة.
يُظهر تحليل وضعية الحراطين أن هويتهم مركبة ومعقدة: فهي ليست إثنية صلبة، ولا مجرد موقع طبقي بحت، بل نتاج تفاعل بين البنية التاريخية للاسترقاق، وآليات الهيمنة الرمزية، والتحولات السياسية الحديثة.
إن تجاوز إرث الماضي يتطلب عقدًا اجتماعيًا جديدًا، يعيد توزيع رأس المال الرمزي والمادي على نحو عادل، ويتيح للحراطين أن يتحولوا من « جماعة متخيلة » تتشكل حول الذاكرة الجريحة، إلى فاعل اجتماعي كامل الشراكة في صياغة مستقبل موريتانيا.
عبد الله ولد الحيمر

صحيفة الوحدوي الإلكترونية

Laisser un commentaire

Articles similaires